(في الحافلة) .. بقلم / نهال النجار
السلام عليكم..
هكذا ألقت التحية على القِلَّة الحاضرة بالميكروباص، ركنت جوار النافذة، هذا مكانها المفضل خلال رحلة عودتها من الجامعة، بذلت جهدًا حتى تفتحها غير أنها استعصت عليها، فاكتفت بفتحة صغيرة تسمح بتسرب الهواء قليلًا قليلًا.
على مسافةٍ ترى عاشقين يجلسان على طرف الرصيف، يتبادلان الابتسام، عيونهما معلقة كلٌ في عيني الآخر، تكاد تسمع دقات قلوبهما وهي الجالسة من بعيد، دق هاتفها، سارعت بغلقه، لا ترغب أن يسرقها الآخر عن متابعة هذا المشهد المحبب لها، رغم أنه كلاسيكي ومتكرر، تبحث عن المشهد ذاته في فيلم أو أغنية، وربما مقروءًا في رواية أو قصيدة حالمة.
كرة ترتطم بجدار الحافلة، استطاعت سرقتها من عالمها الخاص، وزعقات متبادلة بين صغار يلعبون والسائق، تمعن النظر في كلا الطرفين دون تدخل، الجميع هاج وماج، ثمة أحاديث جانبية مزعجة، جميع من بالحافلة يثرثر.
انتبهت إلى الرصيف، وقد خلا من سكانه، كما ذهب الأطفال بصحبة الكرة بعد مجادلة شرسة مع السائق وعدد من الركاب، في طفولتها لم تكن من هواة كرة القدم، ولم تحرز فيها تقدمًا، الأمر الذي أزعج جارها الوسيم. كان يبذل جهدًا في تدريبها، وكانت ببراءة طفلة تضربه، حتى إنها في مرة عضت يده لما جذبها رغمًا عنها لاستئناف التمرين. ثمة شعور واحد مزعج ليس في استطاعتها تقبله أبدًا، هو إجبارها على الأشياء.
علاقتها بمساحيق التجميل وطيدة، بدأت مذ دست حمرتها بجيب معطفها، ووضعت القليل خلسة عن أمها، لم تكن ترغب سوى بالقليل، كانت مجنونة بألوان الشعر الغريبة والجديدة والقصات المختلفة، كلما نظرت للمرآة أخذت شهيقًا عميقًا إثر رضاها عن نفسها.
أحبت نفسها أنثى جميلة مندمجة في سطحية أدوات الزينة، وأشياء البنات -ربما التافهة- من حذاء بكعب عالٍ والرقص أمام المرآة، وسيطرة اللون الوردي على الحيز الأكبر من دولابها، وأحبها هو قريبة من عالمه الذكوري، وكرة القدم والفرجة على المصارعة الحرة. ابتسمت لما راودها مشهدها وهي تشد شعره القصير، ولم تجد فيه شعرًا لتشده، فضحك لانتصاره هذه المرة وضربها بالكرة وركض بعيدًا بعيدًا حتى تلحق به، ولم تفعل، كان يلتفت للوراء كل ثانيتين بينما يستمر بالمضي.
انتبهت إلى يد خشنة، سمراء بشعرٍ داكن وكثيف، تحط على المقعد الذي أمامها، لم تلتفت لصاحبها الذي شاركها المقعد أثناء شرودها، يستأذنها بفتح الشباك على آخره، مرة أخرى جاهدت لأجل ذلك، لكنه أبى أن يُفتح، تناول مقبضه، قبض عليه بكفٍ غليظ، نظرت له نظرة قصيرة وخاطفة، شعور غريب بالألفة، تدفق الهواء ملأ الأركان كافة، أسندت جذعها وأغمضت عينيها منتشية.
يتفحص الكتاب الذي حملته، يردد بصوت هامس: مدخل إلى القانون الدولي العام..
تنتبه إلى نغمة صوته، لم تكن غريبة تمامًا، ملامحه أيضًا قريبة، قريبة جدًا، تكاد تختلط بملامح جارها، لم تنبس ببنت شفة.
– أشعر أني أعرفكِ..
لم ترد، لم تتحرّك عيناها حتى.
لاحقتها أسئلته الكثيرة، وكأنها سيول متدفقة، كانت ترغب في الكلام، تريد أن تقول شيئًا، ودون معرفة سبب واضح منها سكتت، ولما حاولت تلعثمت، اختنقت من نفسها، نفسها التي لم تحبها سوى أمام المرآة فقط وإذا حضر الناس خجلت.
-هل أضايقك بأسئلتي الكثيرة؟
– نعم.
قالتها وأدارت ظهرها له متأملة حال النافذة، وللمرة العاشرة هي لا تعرف لماذا قالتها، وهو لا يعرف شيئًا عن ارتباكها الداخلي.